ملف مجلة العربى عن الأديب الكبير
نجيب محفوظ
عروبة القلب الوديع
د. سليمان إبراهيم العسكري
درجنا في عالمنا العربي، ومنذ زمن بعيد، على قياس درجة التزام الناس بقوميتهم وعروبتهم بمدى ادعاءاتهم القومية الكلامية، والتي قد تكون متناقضة مع سلوكهم الفعلي، وما يجلبه هذا السلوك على العرب والعروبة من خسران جسيم. بينما هناك نفر من الناس النادرين بيننا، يقدم فعلهم العملي خدمات جليلة للعرب والعروبة، بلا ادعاء ولا تكلف، بل بنفس صادقة وتواضع بليغ، ونجيب محفوظ مثال ساطع على هذا الأداء العروبي النبيل، وبوسيلة تكاد تكون قلب العروبة الحقيقي وجوهرها.
وصف الناقد الكبير رجاء النقاش نجيب محفوظ بأنه صاحب القلب الوديع، بل القلب الوديع نفسه، وهي صفة لم أر أجمل ولا أدق منها انسجامًا مع حقيقة الروائي العربي الرائد، والذي رحل عن دنيانا العربية مخلفًا وراءه عطرًا من الوداعة الكريمة أو الكرامة الوديعة، لا تكاد تدانيهما وداعة ولا كرامة، دون صخب، ولا ضوضاء، بالرغم من قسوة الاتهامات، التي وجهها البعض لنجيب محفوظ، خاصة في قضية العروبة، بينما كان الرجل من أعمق العروبيين انتماء، وبما لم يستطع مجاراته كثيرون من أصحاب الاتهام الذين كانوا مرتفعي الأصوات إلى حد الضوضاء، وهي ضوضاء رد عليها صاحب القلب الوديع بهدوء اشتهر به، لكن بثقة عامرة، بإنجاز عظيم يجعله من أكثر مَن خدموا العرب والعروبة بفعلهم الممتد طولاً وعرضًا وعمقًا، في الزمان الذي أمضى منه أكثر من ستين عامًا ككاتب، وفي المكان الذي يمتد من الخليج إلى المحيط، ويترامى باتساع العالم حيثما كان هناك قارئ لأدبه الكبير والوفير. وهل هناك جوهر للعرب والعروبة أثمن من اللغة العربية؟!
لقد كانت اللغة العربية هي الساحة الأهم، التي تجلى فيها إنجاز محفوظ الروائي، ولأنه كان المؤسس لهذا الفن الرفيع واسع الجماهيرية، فإن أداءه اللغوي كان معركة، مع نفسه المبدعة في مراحل التجريب المضنية، ومع المعارضين له في شروط الإبداع قياسًا على ما كان سائدًا في حينه، ومن ثم جاء انتصاره تكريسًا للاختيار الذي أصرّ عليه، وكانت العربية الفصحى في هذا الاختيار.
وهل هناك جامع حقيقي للعرب أوثق من لغتهم الفصحى؟
بنفس وادعة وروح جسور
منذ اللحظة الأولى قرر نجيب محفوظ أن تكون العربية الفصحى هي أداته الشاملة في فنه الروائي الرائد، سواء في السرد أو في الحوار، وواجه في ذلك عاصفة نقدية من كبار جادين، لكنه صمد بإصرار لا خشونة فيه، بالرغم من أن بعض هبات هذه العاصفة النقدية كانت خشنة وقاسية، على ما يذكر الناقد الكبير رجاء النقاش في كتابه «في حب نجيب محفوظ». فقد ظهر كتاب «في الثقافة المصرية»، في طبعته الأولى في بيروت سنة 1955 متضمنًا مجموعة من الدراسات الأدبية والفكرية كتب بعضها الناقد الكبير محمود أمين العالم، وكتب بعضها الآخر الدكتور عبدالعظيم أنيس، وقد انفرد الدكتور عبدالعظيم أنيس بكتابة الدراسة الخاصة بالرواية المصرية الحديثة، والتي تتضمن أعنف هجوم نقدي وسياسي تعرض له نجب محفوظ في حياته الأدبية، ومن ثنايا هذا النقد، برز اعتراض الدكتور عبدالعظيم أنيس على كتابة نجيب محفوظ للحوار باللغة العربية الفصحى في روايتيه «زقاق المدق» و«بداية ونهاية». قال الدكتور عبدالعظيم في نقده: «لولا إصرار نجيب محفوظ على إدارة الحوار بالعربية الفصيحة في هاتين الروايتين، لكان حظه من النجاح الفني أوفر وأكمل، فالحقيقة أن نجيب محفوظ يستفز القارئ بحواره الفصيح الذي يجري على لسان شخصيات من صميم قلب الشعب المصري وأحيائه الشعبية». وفي السياق نفسه علق المستشرق الإنجليزي «ديزموند ستيوارت» وهو أحد مترجمي أعمال نجيب محفوظ إلى الإنجليزية، على موقف نجيب محفوظ من العامية، بتعبير لا يخلو من الخشونة أيضًا عندما قال: «إن التزام نجيب محفوظ للفصحى في كتابة الحوار مخل بمطلب الواقعية، وهو عند نجيب محفوظ نوع من «العناد الطارئ»، لا يؤدي وظيفة فنية صحيحة».
لقد دافع نجيب محفوظ عن اختياره للعربية الفصيحة في أعماله بقوة تتناسب مع هذه الخشونة أحيانًا، ومن ذلك قوله في حديث مع الناقد فؤاد دوارة:
«إن اللغة العامية من جملة الأمراض، التي يعاني منها الشعب، والتي سيتخلص منها حتمًا عندما يرتقي، وأنا أعد العامية من عيوب مجتمعنا مثل الجهل والفقر والمرض تمامًا. والعامية مرض أساسه عدم الدراسة. والذي وسع الهوّة بين العامية والفصحى عندنا هو عدم انتشار التعليم في البلاد العربية، ويوم ينتشر التعليم سيزول هذا الفارق، أو سيقل كثيرًا، ألم تر تأثير انتشار الراديو في لغة الناس، حيث بدأوا يتعلمون الفصحى ويفهمونها ويستسيغونها؟ وأنا أحب أن ترتقي العامية، وأن تتطور الفصحى لتتقارب اللغتان، وهذه هي مهمة الأدب في رأيي».
لكن الدفاع الأقوى لنجيب محفوظ ضد ناقديه، وهو في الوقت ذاته الدفاع الأبقى والأكثر وداعة وإفحامًا، كان استمراره في الإبداع بالفصحى حتى في حوارات شخصياته الروائية، وهو ما تكلل بالنجاح في نهاية الأمر.
وفي شهادة قيمة في هذا الشأن أدلى بها نجيب محفوظ، حول مستقبل اللغة العربية نشرتها مجلة «الهلال» عام 1985، وفي هذه الشهادة ينظر نجيب محفوظ لاختياره الفصحى بدراية نقدية وفكرية شديدة التماسك، ويكرّس لهذا الاختيار قائلاً: «اللغة وجه من وجوه الحضارة، يتشكل بتشكلها، ويتقدم بتقدمها، ويتنوع بتنوعها، ويستوعب من الأفكار والأشياء ما تستوعب، والفارق كبير وملموس بين ما كانت عليه العربية التقليدية، وما هي عليه اليوم في جميع مظانها من كتب رفيعة وكتب جماهيرية وصحافة يومية، والمكتبة العربية حافلة بالكتب الموضوعة والمترجمة في الآداب والإنسانيات، والفلسفة والعلوم، بل لا تخلو مادة من قاموس خاص يفي باحتياجاتها، ويُرجع إليه عند الحاجة، كل أولئك يدل على حيويتها ومرونتها واستجابتها للزمن كما يدل على غيرة أبنائها ونشاطهم وقيامهم ببعض حقها عليهم، ولكن من المغالاة غير المحمودة القول بأنها بلغت الكمال في ذلك».
ملاحظات المُحب
وبعد أن قدم نجيب محفوظ لشهادته أخذ في عرض بعض ملاحظاته الثاقبة حول اللغة العربية، وهي ملاحظات تدل على عارف عميق الحب للموضوع الذي يتصدى له، فيرصد:
- إن اللغة العربية لايزال تطورها خاضعًا للاجتهاد الإقليمي، فتتعدد التسميات بتعدد المجتهدين وتتنوع المصطلحات، ولاشك أنه توجد أمور أساسية في العلم والفلسفة والآداب والإنسانيات يجب أن يتفق عليها، ولن يُتاح لها الاتفاق إلا في نطاق التكامل والتضامن.
- إن حركة تقدمها تعتبر بطيئة بالقياس إلى روح العصر المتمثلة في سرعته، وتفجر معلوماته وكثرة مخترعاته وتنوع سلعه، مما قد تبدو معه فكرة التعريب عديمة الجدوى، مما يوجب إثراء هذه اللغة بالأسماء العالمية وترك تثنيتها وجمعها للسليقة.
وفي هذا الإطار، يستذكر نجيب محفوظ: «تحضرني في هذا المقام حيرتي، إذ تعرضت في إحدى رواياتي إلى وصف معاصر، فالعربية... إن حرصت على تقاليدها - لن تسعفني - على سبيل المثال - في وصف أثاث عصري أو زي أو مطبخ أو حمام، ناهيك بمحل مثل عمر أفندي أو مستشفى أو ملهى».
لقد رأى «أنه لا يقضي على لغة مثل تقديسها والمحافظة عليها جامدة، حيث لا خوف من أن تتمتع العربية بالحرية، التي تحظى بها اللغات الحديثة، حتى تصير لغة عصرية بكل معنى الكلمة، وأن تستوعب جميع الأفكار وجميع الأشياء».
ثلاثة مستويات
ويكمل نجيب محفوظ رصد علاقة اللغة المحكية المتصلة بالواقع المباشر في ثلاثة مستويات:
- الحوار بين الناس:
وبالنظر إلى انتشار الأمية، وإلى متطلبات الحياة اليومية، وإلى تقاليد اللهجات الضاربة بجذورها في الماضي السحيق، فإن اللغة العربية لا تستطيع استيعاب هذا الواقع المتدفق أو تجاوز الازدواجية، ولكن انتشار التعليم واستعمال اللغة في أجهزة الإعلام، قد يخلق على المدى الطويل لغة شعبية تقترب في جوهرها كثيرًا من الفصحى، مع الاستفادة الدائمة من حيوية اللغة الدارجة ومواكبتها التلقائية لحركة الزمن والحضارة. بل ليس من المستبعد أن توجد في الزمن البعيد لغة عربية واحدة متطورة للحوار اليومي تشبه لغة الصحافة في عالم الكتابة، ولن يتوقف ذلك على نشاط التعليم وأجهزة الإعلام فحسب، ولكن على ما نولي اللغة من عناية ومرونة وتيسير، وخاصة فيما يتعلق بالنحو والإعراب.
- لغة الرواية:
يمكن أن يكتب الأدب الروائي باللغة الفصحى نصًا وحوارًا، «وقد خضنا هذه التجربة خلال معارك نقدية طويلة ووحشية، وأعتقد أن تجربتنا مع اللغة وتطويعها لهذا الفن كانت ناجحة، ولعله مما يذكر أن كتابة الرواية بالفصحى اليوم هي القاعدة، وأن استعمال اللهجات الإقليمية هو الاستثناء».
- لغة الدراما:
في المسرح التاريخي تستعمل اللغة شعرًا ونثرًا.
أما في الدراما فتغلب الدارجة، وعلى أي حال فإن لغة الدراما ستتغير بتغيير لغة الحوار اليومي وقد تسبقها في التطور نحو اللغة المنشودة.
أما الكوميديا فستظل تعتمد على لغة الشعب (الدارجة) لأنها تستمد من نبرتها وتركيباتها جزءًا لا يستهان به من فكاهتها.
ومهما يكن من أمر فإن ازدواجية اللغة ليست بالعيب الخطير ولا تكاد تخلو منه أمة، والمهم أن تتحد لغة الثقافة بمعناها الشامل، وفيها تلتقي الأمة العربية مهما تنوعت لهجاتها.
رد الجميل
يرى نجيب محفوظ أن التوحيد في اللغة يعني التوحيد في الثقافة أو التقارب فيها إلى أقصى حد، وهو من الأسباب المهمة التي تعمل على الوحدة السياسية مع توافر الأسباب الأخرى. وقديمًا وحد الأدب بين العرب قبل أن تنتشر فكرة واحدة عن التكامل الاقتصادي أو الوحدة السياسية، ولست في حاجة إلى التذكير بأن اللغة وحدها لا تكفي لتوحيد العرب. ونحن نعلم أن الحرب قد قامت بين الولايات المتحدة وإنجلترا على الرغم من توحد اللغة والجنس. ولكن إذا توافرت الشروط الأخرى تصبح اللغة الواحدة من أهم أسباب الالتحام والتوحيد.
المدهش أن هذا التنظير والتكريس للغة العربية الفصحى جاء تاليًا لتفعيل هذه اللغة في فنه منذ وقت مبكر، وهو مما يمكن أن نعده نوعًا من الاستشراف الأدبي المستقبلي، والسعي باتجاه نوع من الوحدة الثقافية العربية لعلها تكون أبقى وأفعل وأعمق أنواع الوحدة بعد أن انهارت وحدات أخرى سياسية، وتعثرت أو تلكأت طويلاً وحدات غيرها في مجال الاقتصاد وما يتعلق به من منافع واستحقاقات مختلفة. وبقدر ما كان نجيب محفوظ حريصًا على هذا الجانب الوحدوي الثقافي البديهي والأصيل، بقدر ما أفاد هو نفسه من عطائه الذي جنى ثماره الوفيرة في حقل العرب والعروبة الشاسع، وإذا كان نجيب محفوظ قد صرح قائلاً في وقت مبكر بأنه يكتب «لكل العرب ولا يكتب للمصريين فقط»، فقد تحقق المردود بسخاء، لأنه صار الروائي الأكبر لكل العرب وليس للمصريين وحدهم، ولعله يكون الروائي الأكثر انتشارًا بين الكتّاب العرب على مساحة رقعة جغرافية وزمنية متسعة.
جدل من الوزن الثقيل
لقد كان نجيب محفوظ وديع القلب نعم، ومسالمًا جم التواضع والزهد، لكنه لم يكن ممن يتنازلون عن قناعة ارتضوها لأنفسهم، خاصة وجديته تقطع بأن كل قناعة تبناها لم يصل إليها إلا بعد مجاهدة وتمحيص. ولم تكن قناعته بتبني الفصحى خارج هذا السياق، ويعرض علينا الناقد رجاء النقاش جانبًا من ذلك، في مجادلة عميقة بين الدكتور لويس عوض ونجيب محفوظ، وكان محور المجادلة هو العامية والفصحى. يكتب رجاء النقاش: «كان بعض المدافعين عن العامية مثل الدكتور لويس عوض يقولون إن اللغات الأوربية المعاصرة ما هي إلا اللهجات العامية المتفرعة عن اللغة اللاتينية القديمة، فالإيطالية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية هي لهجات لاتينية عامية تحولت إلى لغات قومية مستقلة ومنفصلة بعضها عن بعض. وحاول أصحاب هذا الرأي أن يقيسوا اللهجات العامية بالنسبة للغة العربية الفصحى، بما حدث في اللهجات العامية الأوربية واللغة اللاتينية الأم، لكن ما حدث في اللهجات العامية الأوربية التي تحولت إلى لغات قومية مستقلة، لم يحدث مع اللهجات العامية العربية، على الرغم من المحاولات الكثيرة التي أرادت لهذه اللهجات أن تصبح لغات مستقلة، لتصبح عندنا لغة مصرية، وأخرى شامية، وثالثة خليجية، ورابعة مغربية وهكذا. ورأى نجيب محفوظ في هذه القضية نعمة على العرب، كما رآها ظاهرة سلبية في الدول الأوربية، فالعرب قد احتفظوا بلغة قومية أساسية واحدة وهو ما لم يحدث في أوربا، و«إن انقسام اللاتينية إلى لغات متعددة هو كارثة حلت بأوربا، ولولا ذلك لكانت أوربا كلها الآن تتكلم لغة واحدة، وهو أمر أفضل لأوربا وللعالم. وإذا كان ما حل باللغة اللاتينية هو كارثة على أوربا فلماذا نريد أن نقلد هذه الكارثة ونكررها بالنسبة للغة العربية؟».
قد يكون الأمر بالنسبة لأوربا ليس بالضبط كارثة، لكنه كان سيشكل كارثة أكيدة بالنسبة للعرب، فلقد تمكّن الأوربيون من التغلب على هذا التشرذم اللغوي بجهود مضنية من المعالجات البشرية والتقنية للترجمة، أعانتهم على إنجازها نظم تعليمية متطورة وتقنيات رقمية قطعوا فيها أشواطًا حولت الترجمة الآلية بين اللغات الأوربية إلى حقيقة لم يكن لنا أن نبلغها في ظل نظم تعليمية عربية متعثرة وبرمجيات مشتتة وضعيفة، ولم يكن تجاوز هذا التعثر وهذا التشتت ليتم إلا بإنفاق هائل واتفاق متين، وكلاهما ليس مما يسهل الحصول عليه في أمر من أمور الثقافة واللغة. فحمدًا لله، وحمدًا لهذه الجذور المتينة للغة العربية الفصحى التي يحرسها كتاب الله الكريم وثقافة الأمة الروحية، ويساهم في حراستها أبناء هذه اللغة بسليقتهم السوية، وفي طليعتهم نفر من الأدباء المخلصين وذوي البصيرة الثاقبة مثل نجيب محفوظ الذي ما كان لينتهي من مجادلة في شأن العامية والفصحى، حتى تبرز له مجادلة جديدة من زاوية مختلفة، تارة تكون فنية الذرائع وتارة تكون سياسية الخطاب.
حيوية لا تنفيها الوداعة
لقد جوبه نجيب محفوظ من النقاد بمن يقول إن إنطاق الشخصيات الشعبية البسيطة بحوار فصيح فيه افتعال وربما تزييف لهذه الشخصيات، وكان رده أن هذه الرؤية هي حجة «ظاهرية» لأن الأدب ليس نقلاً حرفيًا «فوتوغرافيًا» للحياة المعيشة كما هي، وإلا صار الأديب الذي يفعل ذلك مجرد كاتب محدود الأهمية والتأثير، فأي شخصية شعبية لها ظاهر خارجي ولها أعماق أخرى دقيقة هي التي تصورها على حقيقتها الأصلية، والذين يهتمون بالظاهر الخارجي يرسمون صورة ناقصة وتكاد تكون مزيفة للشخصية الشعبية. بالطبع لا يمكن اعتماد هذا الدفاع عن إجراء الحوار بالفصحى كبيان ينفي استحقاق الحوار باللهجات العامية لدى كثير من الأدباء العرب لصفة الفن وجدارة الغوص في أعماق الشخصية، فهذه نقطة خلاف ليست عربية فقط بل هي عالمية أيضًا. لكن المؤكد أن صاحب القلب الوديع كان يدافع عن عمله، وكان عمله يدافع عن مقولته، ثم إنه في النهاية نجح في إخصاب مساحة عظيمة من الفن الروائي باختياره للعربية الفصحى، وليس مطلوبًا منه أن يحرر كامل مساحة هذا الفن لاختياره، وإلا فقد الفن صفة الاغتناء بالتنوع الذي كان يدافع عنه محفوظ نفسه، فهو لم يكن أديبًا عربيًا وعروبيًا كبيرًا فقط، بل كان ليبراليًا عربيًا مهمومًا بقضايا أمته ونهضتها بشكل خاص، فهو الذي يحدد معنى هذه النهضة وشروطها «بأن تتحرر الأمة من أي تسلط على إرادتها وأن تسعى للتنمية الشاملة، وتربية المواطن وتأهيله على طريق هدف كبير وجعل الخدمات حقوقًا مقدسة كالتعليم والصحة والثقافة والمواصلات والترفيه وتكريس حقوق الإنسان»، ويرى أن هذه النهضة لم تبدأ أو لم تكد تبدأ ويرى «أننا فهمنا الوحدة العربية على أنها وحدة سياسية وحكومة واحدة، لكن علينا أن ننسى ذلك وأن تكون الوحدة - التي يجب أن نعمل لها تنطلق من الجامعة العربية، والتي كان يجب ألا تتوقف لأي خلاف أو تناقض (بين أعضائها) - هي وحدة الثقافة العربية والاقتصاد، وهذا ما يعوز نهضتنا، بل غياب ذلك هو ما يجعلها نهضة إقليمية متعثرة وهزيلة...» ويتصور لنا نجيب محفوظ إطارًا عامًا للعمل الوحدوي العربي يلخصه في: الابتعاد عن التفكير في الوحدة السياسية أو الزعامة بصورة جبرية، ولتكن هناك دول عربية مستقلة، ونركز على المنافع المشتركة فيما بينها، والبحث عن أرض مشتركة في التكامل الاقتصادي والثقافة والتعليم والرياضة والترفيه وأن نحرص على المحافظة على الجامعة العربية ونجدد حيويتها باعتبارها مركز الأمور المشتركة ومهدًا لتذويب الاختلافات، وجامعة للبحوث والمعلومات التي تساند النهضة وتخطط لها. وليكن بث الإيمان في الناس كهدف أعلى، وليكن هذا الهدف هو «التقدم والخروج من التخلف» فعدونا الأول هو التخلف، وهدفنا الأعلى هو الارتفاع إلى مستوى الإبداع والعطاء في هذا العصر.
لقد اتهم البعض نجيب محفوظ في عروبته، لأنه أبدى رأيًا مؤيدًا لمحاولة الحصول على الحق العربي، أو بعضه، عن طريق التفاوض السلمي (مع إسرائيل)، وفات هؤلاء أن رؤية كهذه تستند إلى تكتيك سياسي لا ينفي عن صاحبها أبدًا استراتيجية التمسك بالعروبة وحقوقها المشروعة، ومن الدلائل الواضحة على ذلك - زيادة على ما أوردناه سالفًا - تلك المحاورة التي جرت في لقاء بين مجموعة من الأدباء والمفكرين - وكان نجيب بينهم - وزعيم عربي معروف سأله نجيب محفوظ: لماذا لا نحارب من أجل الحصول على حقوقنا؟ وكان رد القائد العربي يفيد بأن الحرب ليست ممكنة في حينه، فكان رد نجيب التالي: إذن نحاول الحصول على حقنا بالتفاوض. ولم يكن ذلك يعني تكريس الاستسلام لمغتصبي حقوق الأمة، وهو ما رفضه نجيب وتجلى في مواقفه وآرائه المؤيدة والداعمة للحقوق العربية، وتنديده الدائم والصريح بالانتهاكات والمذابح الإسرائيلية في فلسطين وفي لبنان.
لقد رحل صاحب القلب الوديع والضمير الإنساني العربي، لكنه ترك بين أيدينا وأيادي الأجيال القادمة من أبناء أمتنا العربية ألوانًا من الإبداع تزهو بلغتها العربية الصادقة وتصونها، ووضع لنا شروطًا للنهضة العربية تمنحنا حرية الحركة، وتقطع بأن القلب الوديع لم يكن قلبًا مستكينًا، بل هو نموذج لأكثر القلوب صحة وعافية وحيوية وجسارة، وصاحب رؤية ثاقبة لمستقبل أمته العربية.
...